الأربعاء، 31 أكتوبر 2007


تقاعد أم تعاقد مع الموت البطيء

المتقاعدون بين نيران المعاش الهزيل والإحباط النفسي والفراغ القاتل



تعتبر مرحلة التقاعد من أهم المراحل وأصعبها على حياة الإنسان، ففي هذه المرحلة يشعر الإنسان بأنه يحتاج إلى قسط من الراحة ، يعوضه عن سنوات التعب التي قضاها وهو يكد من أجل ضمان قوت يومه، وفي نفس الوقت غير راضي لأن قدرته العطائية تقلصت لدرجة أصبح يشعر معها بالعجز، عجز تزداد حدته، بالمعاشات الهزيلة التي يتقاضاها جل المتقاعدين، والتي تعمق الشعور بالحيف والتهميش.
لهذا فموضوع التقاعد بشكل عام هو يحتاج إلى وقفة متأنية، لأنه يمس شريحة مهمة داخل المجتمع المغربي، فهو من أشد المواضيع حساسية لأن تأثيراته تمس الجانب المادي والمعنوي، وتخلف مشاكل جمة خاصة على الصعيد الإقتصادي، والإجتماعي والنفسي. وهذا ما سنحاول ملامسته:

إن شريحة واسعة من المتقاعدين يصنفون ضمن الطبقات الفقيرة، أو ما يعرف بحسب المصطلحات المتعارف عليها بالطبقات الكادحة، بحيث يتقاضون معاشا في الغالب لا تتعدى قيمته 750 درهما شهريا، فجل المعاشات هي هزيلة جدا، ولا تضمن العيش الكريم لهؤلاء ولا تحفظ ماء وجههم أمام أفراد الأسرة، إلا من رحم ربي، فالمتقاعدين من كبار السن هم في تزايد ملفت ، صحيح أن مجتمعنا تغلب عليه الفئة الشابة، ولكن هذا لا يمنع من أنه مهدد كغيره من الدول بشبح شيخوخة هرمه السكاني.
وإذا كانت الفئة الأولى تعاني في صمت فإننا نجد بأن الفئة المتوسطة، من المتقاعدين، يوصف معاشهم بالمتوسط، وبالكاد يساعدهم على تلبية حاجياتهم الضرورية، أما الفئة الثالثة التي تتلقى معاشا مريحا يمكنها من إستثماره في مشاريع مربحة، فهي قليلة، بحيث أن معاشها يصل إلى 10 آلاف درهم إلى ما فوق شهريا ،الأمر الذي يخلق نوع من الطبقية الخفية تفسر الوضعية الصعبة التي تعيشها هذه الشريحة المنسية ، التي قضت حياتها في العمل في مختلف القطاعات، هناك من ساعفهم الحظ وإستطاعو التأقلم مع الوضع الجديد، وهم يعيشون في سعادة مع أحفادهم ، وهناك من يندبون حظهم العكر وينتظرون الموت بفارغ الصبر لأنهم فقدوا الأمل في تحسين أوضاعهم المادية والصحية، فبالرغم من أن اتحاد جمعيات المتقاعدين وكبار السن بالمغرب، قدم للحكومات المتعاقبة ملفات مطلبية، من أجل تسوية الأوضاع المالية والمعنوية، لهذه الفئة، إلا أن هذه الطلبات والمراسلات ظلت دون جواب يذكر.
وفي هذا السياق أكد محمد إدريس بن أحمد المدير العام للصندوق المغربي للتقاعد أن نظام المعاشات المدنية، مهدد بالتدهور في أفق 2012 إذ ستفوق نفقاته مداخيله مما ينذر بآفة إجتماعية خطيرة، إذا لم تتدخل الدولة وتتخد الإجراءات اللازمة ، كما أوضح بأن العامل الديمغرافي عرف إنخفاضا مستمرا حيث إنتقل من 12 منخرط مقابل متقاعد واحد سنة 1983 إلى 3,62منخرطين مقابل متقاعد واحد سنة 2005 متوقعا أن تنخفض هذه السنة إلى 1,25 منخرط لكل متقاعد في أفق 2020، ونشير بأن مصالح الصندوق المغربي للتقاعد أنجزت خلال سنة 2005 حصيلة إستباقية لتوقع العجز قبل حصوله وأفادت الدراسة أن موارد الصندوق لن تكفي لتغطية النفقات المرتقبة في المستقبل، وحتى يتمكن من الوفاء بإلتزماته عليه البحث عن موارد إضافية.
وبالإضافة إلى المشاكل المالية التي يتخبط فيها جل المتاقعدين، نجد مشاكل من صنف آخر، كالمشاكل الصحية، فأغلبهم يعاني من أمراض مزمنة تجعل المتقاعد أكثر احتياجا لزيارة الطبيب بصفة مستمرة كالسكري والروماتيزم، الربو وبالتالي المعاش الذي يتقاضوه لا يكفل لهم مصاريف العلاج، إضافة إلى كونهم لا يستفيدون من التغطية الصحية ، الأمر الذي أثر بشكل سلبي على نفسية المتقاعد المغربي الذي يعيش بين نار الإقصاء والتهميش، ومشاعر التذمر من الوضع المؤسف الذي آل إليه، ونار خيبة الأمل لتفرقة الحاصلة، والتفاضل بين المتقاعدين، فمتقاعدين أصناف وأشكال هناك من يتقاضون معاشات مهمة، وهذه الأخيرة لا تبالي بالإنخراط في جمعيات المتقاعدين للدفاع عن حقوقهم، ومنهم مكن أصبح على على أسرته بعدما كان هو المعيل،من جهة ثانية نجد بأنه في الأحياء الشعبية، تكثر ظاهرة لعب " الكارطا" أو الضاما واللاعبون من كبار السن ، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل هل مصير كل متقاعد هو العودة إلى مرحلة الطفولة، بعدما كان يجري مع الأصدقاء هو الآن يكرر نفس المشهد ولكن هذه المرة في شكل حلقات، في الأزقة والدروب الشعبية، تضييعا للوقت وتكسيرا للروتين وهربا من جحيم المشاكل المنزلية، فللأسف المغرب لا يتوفر على نوادي خاصة بالمتقاعدين، أو فضاءات للقاء وتجادب أطراف الحديث، يلتقون فيها للنقاش وتقاسم الهموم والمشاكل، تساهم بشكل كبير في الحفاظ على كرامة المتقاعد وتقيه شر الجلوس في الشوارع والفضاءات العمومية، في منظر مخجل، وهم يقتلون الوقت في لعب الكارطة أو الضامة، وفي هذا الصدد توصل أستاذ الطب النفسي بمركز الدراسات الأسرة بجامعة روك بأمريكا، إلى أن الفرد عندما يتوقف عن العمل فإن كميات الطاقة الكبيرة التي كان يبذلها يوميا تتعطل ولا تجد مخرجا لها وهي في الوقت نفسه لا تتوارى، فإذا عجز الإنسان عن إستثمار هذه الطاقة المعطلة، فإن ذلك سيؤدي إلى إضطربات عصبية ونفسية وكذلك إلى خلافات إجتماعية جمة، كما تحصل إضطربات عاطفية، تجعل الفرد المتقاعد يشعر بعدم الفائدة ، و في المقابل نجد بعض المتقاعدين والمحالين على المعاش، يعيشون حياة سعيدة بحيث يقومون بأنشطة تمكنهم من تجديد حياتهم بصفة دائمة ويفعلون كل ما يروق لهم في حدود قدراتهم العضلية والجسدية.
فالمرء جرى تطبيعه اجتماعيا ولسنوات عدة على سلوك يومي متكرر، فكيف يكون التخلي الفجائي عنه، إنه لن يتكيف مع الأمر بسهولة، و الزوجة بدورها لن تسعفها الظروف مباشرة للتكيف مع مكوث الزوج بالبيت، وهي التي تعودت لمسافة زمنية ليست بالقصيرة على امتلاكها الكلي للفضاء، وهو اليوم صار بجانبها لا يبرح البيت إلا قليلا، وحتى وإن خرج، فهو لن يتجاوز حدود "الحومة" برفقة آل الضامة والكارطة، فهو حاضر في نفس المجال الذي تعتبره الزوجة مملكتها التي لا تقبل أن يشاركها في تسييرها أي إنسان حتى ولو كان زوجها.
من هنا تنطلق شرارة المشاكل النفسية والاجتماعية، ويصير الاندماج المعطوب أفقا محتملا لكثير من المتقاعدين، الذين ينتمون أساسا إلى السلاليم الدنيا والمتوسطة، فالقبول الإجتماعي بوضعية المتقاعد يشوبه نوع من الغموض فإنسان يسعى من أجل الراحة، ولكن في نفس الوقت يتشبت ويقدس العمل مهما كان بسيطا، كذلك إذا كان يظهر لنا أن هذه الظاهرة تبدوا عادية في عيون أفراد المجتمع، فإن الإنسان بمجرد ما يصل إلى هذه المرحلة، يتذكر مرحلة الشيخوخة، ويتأزم نفسيا لأن هذه المرحلة لا تشبه غيرها من المراحل التي مرة بها فهي مفتوحة على نهايات غير مقبولة إجتماعيا.
أما الذين يختارون توديع الإدارة لأسباب موضوعية وذاتية، فغالبا ما يكون العامل إما صحيا أو من أجل التفرغ للعائلة، وإما إستثماريا، فالصورة النمطية التي ترسخت في الوعي المجتمعي عن المتقاعدين، تؤكد على صعوبة إندماج هذه الفئة وتأقلمها مع الوضع الجديد، فالمتقاعد ينظر إليه كشخص انتهت صلاحيته وإنتاجيته، بعدما لم يعد له منصب مالي في الإدارة، التي كان يعمل بها، بل إن التقاعد يؤشر في كثير من الأحيان على كل ما هو سلبي، فالتقاعد، يدل مغربيا على اللاجدوى والهشاشة وعدم الفعالية والإنتاجية، لهذا لا تبعث مرحلة التقاعد عموما على الارتياح، وذلك راجع بحسب المحللين الإجتماعيين إلى أسباب كثيرة ، يتداخل في صوغها الإداري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فمن الناحية الإدارية، ما زال نظام التقاعد، بالرغم من كل الإصلاحات، التي عرفها، ما زال دون المأمول والمقبول، كما أن الإدارة المغربية لا تعمل لحد الآن بمنطق التحفيز وهندسة الكفايات والموارد البشرية، فهي تلفظ المحالين على التقاعد دون أن تنتبه لهم أو تكافئهم على سنوات عمرهم، التي أفنوها في خدمة الإدارة، بل إنها لا تكلف نفسها عناء تدبيرملفاتهم المالية في أقرب مدة ممكنة، وهو ما ينتج عنه جملة من الأعطاب الإجتماعية، كذلك ماهو إجتماعي ، فالقبول المجتمعي بالمتقاعد في كثير من الأسر المغربية يظل محدودا، ذلك أن التقاعد يعني، فيما يعنيه، نهاية مشواره العملي وهذا يقود مباشرة إلى إختلالات بنيوية على مستوى الأسرة وآليات تدبير اليومي، كذلك المتقاعد يشعر بالإحباط لما يرى أن شبح البطالة يطارد الطاقة الشابة ببلاد فبالأحرى هو الذي فاق سنه 65
.

ليست هناك تعليقات: